فصل: تفسير الآية رقم (65):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {ومن اتَّبعكَ} فيه أوجهٌ.
أحدها: أن يكون {مَنْ} مرفوع المحلِّ، عطفًا على الجلالة، أي: يكفيك الله والمؤمنون.
وبهذا فسّره الحسن البصري وجماعة وهو الظاهر ولا محذور في ذلك حيث المعنى.
فإن قالوا: من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله، أو ينقص بسبب نصرة غير الله، وأيضًا إسناد الحكم إلى المجموع يوهم أنَّ الواحدَ من ذلك المجموع لا يكفي في حصولِ ذلك المهم وتعالى الله عنه.
ويجابُ: بأنَّ الكُلَّ من اللَّهِ، إلاَّ أنَّ من أنواع النُّصرة ما يحصل بناء على الأسباب المألوفةِ المعتادةِ، ومنها ما يحصلُ لا بناءً على الأسباب المألوفة المعتادة؛ فلهذا الفرق اعتبر نصر المؤمنين، وإن كان بعضُ الناس استصعب كون المؤمنين يكونون كافين النبي صلى الله عليه وسلم وتأوَّل الآية على ما سنذكره.
الثاني: أنَّ {مَنْ} مجرورُ المحلِّ، عطفًا على الكافِ في: {حَسْبُكَ}، وهذا رأي الكوفيين وبهذا فسَّر الشعبي وابن زيد، قالا: معناه: وحسبُ من اتَّبعك.
الثالث: أنَّ محلَّه نصبٌ على المعيَّة.
قال الزمخشري: {ومنِ اتَّبعكَ} الواو بمعنى مع وما بعدهُ منصوبٌ، تقول: حَسْبُكَ وزَيْدًا درهمٌ، ولا تَجُرُّ؛ لأنَّ عطف الظّاهر المجرور على المكنيّ ممتنعٌ؛ وقال: [الطويل]
فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ

والمعنى: كَفَاك وكَفَى تُبَّاعكَ المؤمنين اللَّه ناصرًا.
قال أبو حيَّان: وهذا مخالفٌ لكلام سيبويه؛ فإنَّه قال حَسْبُك وزَيْدًا درهم لمَّا كان فيه معنى: كفاك، وقبُحَ أن يحملوه على الضمير دون الفعل، كأنَّهُ قال: حسبك وبحسبِ أخاك ثم قال: وفي ذلك الفعل المضمير ضميرٌ يعودُ على الدرهم والنيةُبالدرهم التقديمُ، فيكون من عطف الجمل، ولا يجوزُ أن يكون من باب الإعمال، لأنَّ طلبَ المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل، أو ما جرى مجراه، ولا عمله فلا يُتوهَّم ذلك فيه.
وقد سبق الزمخشريَّ إلى كونه مفعولًا معه الزجاج، إلاَّ أنه جعل حسب اسم فعلٍ، فإنه قال: حَسْبُ اسمُ فعل، والكافُ نصبٌ، والواو بمعنى مع.
وعلى هذا يكون {اللَّهُ} فاعلًا، وعلى هذا التقدير يجوز في {ومَنْ} أن يكون معطوفًا على الكاف، لأنَّها مفعول باسم الفعل، لا مجرورٌ، لأنَّ اسم الفعل لا يُضاف.
ثم قال أبو حيان: إلاَّ أنَّ مذهب الزجاج خطأٌ، لدخول العوامل على حَسْب نحو: بِحَسْبك درهم، وقال تعالى: {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله}، ولم يثبت في موضع كونه اسم فعل، فيحمل هذا عليه.
وقال ابنُ عطية- بعدما حكى عن الشعبي، وابن زيد ما تقدَّم عنهما من المعنى-: ف {مَنْ} في هذا التأويل في محلِّ نصب، عطفًا على موضع الكاف؛ لأنَّ موضعها نصبٌ على المعنى بـ: يَكْفِيكَ الذي سَدَّتْ حسبك مَسَدَّه.
قال أبو حيان هذا ليس بجيد؛ لأنَّ {حَسْبك} ليس ممَّا تكونُ الكافُ فيه في موضع نصب، بل هذه إضافة صحيحة ليست من نصب، و{حَسْبك} مبتدأ مضافٌ إلى الضمير وليس مصدرًا، ولا اسم فاعل، إلاَّ إن قيل: إنَّه عطف على التوهم كأنه توهَّم أنه قيل: يكفيك الله، أو كفاك الله، لكن العطف على التوهُّم لا ينقاسُ.
والذي ينبغي أن يحمل عليه كلامُ الشعبي وابن زيد أن تكون مَنْ مجرورة بـ حَسْب محذوفة، لدلالة حَسْبك عليها؛ كقوله: [المتقارب]
أكُلَّ امرئٍ تَححسَبينَ امْرَأً ** ونارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا

أي: وكلَّ نار، فلا يكُونُ من العطفِ على الضمير المجرور.
قال ابن عطيَّة: وهذا الوجهُ من حذفِ المضاف مكروه بأنه ضرورةٌ.
قال أبو حيان: وليس بمكروهٍ، ولا ضرورة بل أجازه سيبويه، وخرَّج عليه البيت وغيره من الكلام.
قال شهابُ الدين: قوله: بل هذه إضافةٌ صحيحة، ليست من نصب فيه نظر؛ لنَّ النَّحويين على أنَّ إضافة حَسْب وأخواتها إضافةٌ غيرُ محضة، وعلَّلُوا ذلك بأنها في قوة اسم فاعل ناصبٍ لمفعولٍ به، فإنَّ {حَسْبكَ} بمعنى: كافيك، وغيرك بمعنى مُغايرك، وقيد الأوابد بمعنى: مُقيدها.
قالوا: ويدلُّ على ذلك أنَّها تُوصفُ بها النَّكرات، فيقال: مررت برجلٍ حسبك من رجلٍ.
وجوَّز أبو البقاء: الرفع من ثلاثة أوجهٍ: أنَّهُ نسقٌ على الجلالةِ كما تقدَّم، إلاَّ أنَّهُ قال: فيكون خبرًا آخر، كقولك: القائمان زيد وعمرو، ولم يُثَنِّ {حَسْبك}؛ لأنه مصدرٌ.
وقال قومٌ: هذا ضعيفٌ؛ لأن الواو للجمع، ولا يَحْسُن ههنا، كما لا يَحْسُن في قولهم: مَا شَاء اللَّهُ وشِئْتَ، ثم هاهنا أولى.
يعني أنَّهُ من طريق الأدل لا يُؤتَى بالواو التي تقتضي الجمع، بل يأتي بـ ثم التي تقتضي التراخي والاحديثُ دالٌّ على ذلك.
الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: وحسب من اتبعك.
الثالث: هو مبتدأ والخبر محذوف تقديره: ومن اتبعك كذلك، أي: حسبهم الله.
وقرأ الشعبيُّ {ومَنْ} بسكون النون {أْتْبَعك} بزنة أكْرَمَكَ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)}
أحسنُ التأويلات في هذه الآية أن تكون {مَنْ} في محل النَّصب؛ أي ومَنْ اتبعك من المؤمنين يَكفيهم الله.
ومن التأويلات في العربية أن تكون {مَنْ} في محل الرفع أي حسبُك مَنْ اتبعك من المؤمنين.
وقد عُلِمَ أن استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم كان بالله لا بمن سوى الله، وكلُّ مَنْ هو سوى الله فمحتاجٌ إلى نصرة الله، كما أن رسول الله محتاج إلى نصرة الله. اهـ.

.قال ابن القيم:

قال تعالى: {يَا أَيّهَا النّبِيّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَنْفَالُ 64].
أَيْ اللّهُ وَحْدَهُ كَافِيك وَكَافِي أَتْبَاعَك فَلَا تَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى أَحَدٍ. وَهُنَا تَقْدِيرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً ل {مَنْ} عَلَى الْكَافِ الْمَجْرُورَةِ وَيَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَى الضّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِدُونِ إعَادَةِ الْجَارّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ وَشُبَهُ الْمَنْعِ مِنْهُ وَاهِيَةٌ. وَالثّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ مَعَ وَتَكُونَ {مَنْ} فِي مَحَلّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِعِ {فَإِنّ حَسْبَك} فِي مَعْنَى كَافِيك أَيْ اللّهُ يَكْفِيك وَيَكْفِي مَنْ اتّبَعَك كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: حَسْبُك وَزَيْدًا دِرْهَمٌ قَالَ الشّاعِرُ:
إذَا كَانَتْ الْهَيْجَاءُ وَانْشَقّتْ الْعَصَا ** فَحَسْبُكَ وَالضّحّاكَ سَيْفٌ مُهَنّدٌ

وَفِيهَا تَقْدِيرٌ ثَالِثٌ أَنْ تَكُونَ مَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ أَيْ وَمَنْ اتّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَحَسْبُهُمْ اللّهُ.

.الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَسْبِ وَالتّأْيِيدِ:

وَفِيهَا تَقْدِيرٌ رَابِعٌ وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنْ تَكُونَ {مَنْ} فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللّهِ وَيَكُونَ الْمَعْنَى: حَسْبُك اللّه وَأَتْبَاعُك وَهَذَا وَإِنْ قَالَهُ بَعْضُ النّاسِ فَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ فَإِنّ الْحَسْبَ والْكِفَايَةَ لِلّهِ وَحْدَهُ كَالتّوَكّلِ وَالتّقْوَى وَالْعِبَادَةِ قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الّذِي أَيّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الْأَنْفَالُ 62]. فَفَرّقَ بَيْنَ الْحَسْبِ وَالتّأْيِيدِ فَجَعَلَ الْحَسْبَ لَهُ وَحْدَهُ وَجَعَلَ التّأْيِيدَ لَهُ بِنَصْرِهِ وَبِعِبَادِهِ وَأَثْنَى اللّه سُبْحَانَهُ عَلَى أَهْلِ التّوْحِيدِ وَالتّوَكّلِ مِنْ عِبَادِهِ حَيْثُ أَفْرَدُوهُ بِالْحَسْبِ فَقال تعالى: {الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عِمْرَانَ 173]. وَلَمْ يَقُولُوا: حَسْبُنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُمْ وَمَدَحَ الرّبّ تَعَالَى لَهُمْ بِذَلِكَ فَكَيْفَ يَقُولُ لِرَسُولِهِ اللّهُ وَأَتْبَاعُك حَسْبُك وَأَتْبَاعُهُ قَدْ أَفْرَدُوا الرّبّ تَعَالَى بِالْحَسْبِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِهِ فِيهِ فَكَيْفَ يُشْرِكُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِي حَسْبِ رَسُولِهِ؟ هَذَا مِنْ أَمْحَلْ الْمُحَالِ وَأَبْطَلْ الْبَاطِلِ وَنَظِيرُ هَذَا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ} [التّوْبَةُ 59].
فَتَأَمّلْ كَيْفَ جَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ} [الْحَشْرُ 59]. وَجَعَلَ الْحَسْبَ لَهُ وَحْدَهُ فَلَمْ يَقُلْ وَقَالُوا: حَسْبُنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ بَلْ جَعَلَهُ خَالِصَ حَقّهِ كَمَا قال تعالى: {إِنّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ} [التّوْبَةُ 59]. وَلَمْ يَقُلْ وَإِلَى رَسُولِهِ بَلْ جَعَلَ الرّغْبَةَ إلَيْهِ وَحْدَهُ كَمَا قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَبْ} [الِانْشِرَاحُ 87]. فَالرّغْبَةُ وَالتّوَكّلُ وَالْإِنَابَةُ وَالْحَسْبُ لِلّهِ وَحْدَهُ كَمَا أَنّ الْعِبَادَةَ وَالتّقْوَى وَالسّجُودَ لِلّهِ وَحْدَهُ وَالنّذْرُ وَالْحَلِفُ لَا يَكُونُ إلّا لِلّهِ سبحانه: {أَلَيْسَ اللّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزّمَرُ 36]. فَالْحَسْبُ هُوَ الْكَافِي فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنّهُ وَحْدَهُ كَافٍ عَبْدَهُ فَكَيْفَ يَجْعَلُ أَتْبَاعَهُ مَعَ اللّهِ فِي هَذِهِ الْكِفَايَةِ؟ وَالْأَدِلّةُ الدّالّةُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا التّأْوِيلِ الْفَاسِدِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ هَاهُنَا. وَالْمَقْصُودُ أَنّ بِحَسَبِ مُتَابَعَةِ الرّسُولِ تَكُونُ الْعِزّةُ وَالْكِفَايَةُ وَالنّصْرَةُ كَمَا أَنّ بِحَسَبِ مُتَابَعَتِهِ تَكُونُ الْهِدَايَةُ وَالْفَلَاحُ وَالنّجَاةُ فَاَللّهُ سُبْحَانَهُ عَلّقَ سَعَادَةَ الدّارَيْنِ بِمُتَابَعَتِهِ وَجَعَلَ شَقَاوَةَ الدّارَيْنِ فِي مُخَالَفَتِهِ فَلِأَتْبَاعِهِ الْهُدَى وَالْأَمْنُ وَالْفَلَاحُ وَالْعِزّةُ وَالْكِفَايَةُ وَالنّصْرَةُ وَالْوِلَايَةُ وَالتّأْيِيدُ وَطِيبُ الْعَيْشِ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِمُخَالِفِيهِ الذّلّةُ وَالصّغَارُ وَالْخَوْفُ وَالضّلَالُ وَالْخِذْلَانُ وَالشّقَاءُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَدْ أَقْسَمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنْ لَا يُؤْمِنَ أَحَدُكُمْ حَتّى يَكُونَ هُوَ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ وَأَقْسَمَ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ لَا يُؤْمِنَ مَنْ لَا يُحَكّمُهُ فِي كُلّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ ثُمّ يَرْضَى بِحُكْمِهِ وَلَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمّا حَكَمَ بِهِ ثُمّ يُسَلّمُ لَهُ تَسْلِيمًا وَيَنْقَادُ لَهُ انْقِيَادًا. وَقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الْأَحْزَابُ 36]. فَقَطَعَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التّخْيِيرَ بَعْدَ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولَهُ فَلَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَخْتَارَ شَيْئًا بَعْدَ أَمْرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ إذَا أَمَرَ فَأَمْرُهُ حَتْمٌ وَإِنّمَا الْخِيَرَةُ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ إذَا خَفِيَ أَمْرُهُ وَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ وَبِسُنّتِهِ فَبِهَذِهِ الشّرُوطِ يَكُونُ قَوْلُ غَيْرِهِ سَائِغَ الِاتّبَاعِ لَا وَاجِبَ الِاتّبَاعِ فَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ اتّبَاعُ قَوْلِ أَحَدٍ سِوَاهُ بَلْ غَايَتُهُ أَنّهُ يَسُوغُ لَهُ اتّبَاعُهُ وَلَوْ تَرَكَ الْأَخْذَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا لِلّهِ وَرَسُولِهِ. فَأَيْنَ هَذَا مِمّنْ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلّفِينَ اتّبَاعُهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ تَرْكُ كُلّ قَوْلٍ لِقَوْلِهِ؟ فَلَا حُكْمَ لِأَحَدِ مَعَهُ وَلَا قَوْلَ لِأَحَدِ مَعَهُ كَمَا لَا تَشْرِيعَ لِأَحَدِ مَعَهُ وَكُلّ مَنْ سِوَاهُ فَإِنّمَا يَجِبُ اتّبَاعُهُ عَلَى قَوْلِهِ إذَا أَمَرَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَمّا نَهَى عَنْهُ فَكَانَ مُبَلّغًا مَحْضًا وَمُخْبِرًا لَا مُنْشِئًا وَمُؤَسّسًا فَمَنْ أَنْشَأَ أَقْوَالًا وَأَسّسَ قَوَاعِدَ بِحَسَبِ فَهْمِهِ وَتَأْوِيلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأُمّةِ اتّبَاعُهَا وَلَا التّحَاكُمُ إلَيْهَا حَتّى تُعْرَضَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرّسُولُ فَإِنْ طَابَقَتْهُ وَوَافَقَتْهُ وَشُهِدَ لَهَا بِالصّحّةِ قُبِلَتْ حِينَئِذٍ وَإِنْ خَالَفَتْهُ وَجَبَ رَدّهَا وَاطّرَاحُهَا فَإِنْ لَمْ يَتَبَيّنْ فِيهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ جُعِلَتْ مَوْقُوفَةً وَكَانَ أَحْسَنُ أَحْوَالِهَا أَنْ يَجُوزَ الْحُكْمُ وَالْإِفْتَاءُ بِهَا وَتَرْكُهُ وَأَمّا أَنّهُ يَجِبُ وَيَتَعَيّنُ فَكَلّا وَلَمّا. اهـ.

.تفسير الآية رقم (65):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين أنهم كافون مكفيون، وكان ذلك مشروطًا بفعل الكيس والحزم وهو الاجتهاد بحسب الطاقة، أمره بأن يأمرهم بما يكونون به كافين من الجد في القتال وعدم الهيبة للأبطال في حال من الأحوال، فقال معبرًا بالوصف الناظر إلى جهة التلقي عن الله ليشتد وثوق السامع لما يسمعه: {يا أيها النبي} أي الرفيع المنزلة عندنا الممنوح من إخبارنا بكل ما يقر عينه وعين أتباعه {حرض المؤمنين} أي الغريقين في الإيمان {على القتال} أي بالغ في حثهم عليه وندبهم بكل سبيل إليه، ومادة حرض- بأيّ ترتيب كان- حرض، حضر، رحض، رضح، ضرح؛ ترجع إلى الحضور ويلزمه الخفض والدعة، ويلزم الكسل فيلزمه الضعف فيلزمه الفساد، ومنه الحرض الذي أشفى على الهلاك، أي حضر هلاكه وحضر هو موضعه الذي هو فيه فصار لما به لا يزايله ما دام حيًا، ورخص الثوب، أي غسله، من الدعه التي هي شأن الحضور غير المسافرين، والرحضاء عرق الحمى تشبيه بالمغسول، والمرضاح الحجر الذي لا يزال حاضرًا لرضح النوى، والضريح شق مستطيل يوضع فيه الميت فيكون حاضره لازمًا له دائمًا إلى الوقت المعلوم، ويلزمه الرمي والطول، ومنه المضرحي للطويل الجناحين من الصقور لأن كل صيد عنده حاضر لقوة طيرانه، والرجل الكريم لعلو همته، وأحضرت الدابة: عدت فجعلت الغائب حاضرًا، والتحريض الحث على حضور الشيء، فحرض على القتال: حث على الطيران إليه بتعاطي أسبابه والاستعداد لحضوره حتى يصير المحثوث كأنه حاضر، متى قيل: يا صباحاه! طار إلى المنادي، وكان أول حاضر إلى النادي، لأنه لا مانع له من شيء من الأشياء بل استعداده استعداد الحاضر في الصف؛ وقال الإمام أبو الحسن علي ابن عيسى الرماني في تفسيره: والتحريض: الدعاء الوكيد لتحريك النفس على أمر من الأمور، والحث والتحريض والتحضيض نظائر، ونقيضه التفسير، والتحريض ترغيب في الفعل بما يبعث على المبادرة إليه مع الصبر عليه- انتهى.